الصراع والتمرد العشائري وأثره على الاقتصاد العراقي 1850- 1914

Abstract

ارتبط النظام الإداري العثماني ارتباطا وثيقا بالنظام العسكري والاقتصادي إذ يعتمد على المدخولات الجديدة (إيرادات) في الولايات التابعةٍ للدولة العثمانية ، وكُرِست وسخرت التنظيمات الإدارية لخدمة مصالح الدولة الاقتصادية.
وتماشيا مع تقاليد الدولة العثمانية فإنها لم تدخل أنظمتها المتبعة في الأناضول مباشرة إلى ولايات العراق (بغداد، الموصل ، البصرة) تجنبا لحدوث فوضى إدارية وسعت إلى الاستفادة من النظم الإدارية الموجودة آنذاك لطمأنة السكان أيضا (1) .
وكان والي بغداد بالمرتبة الأولى بشكل أو بآخر تتبع له بقية الولايات في العراق إذ أن الباب العالي اصدر فرمانا ينص على اعطاء والي بغداد الحق بعزل وتنصيب باشاوات كردستان (2) .
والوالي أعلى منصب إداري في الولاية وهو حلقة الوصل بين الإقليم أو الولاية وبين مركز السلطة في العاصمة وسلطته تتمثل بفرض النظام وحفظ الأمن وقيادة الجيش وفرض وجباية الضرائب. وقد تعددت الضرائب فمنها الضرائب الديوانية ، وسميت كذلك لأنها صدرت بقانون من الديوان ، وهي على الأغلب تفرض على الأراضي وما تنتجه من مواد زراعية وتراوح نسبتها من 10-20% ، وهناك ضرائب تفرض على الفلاح وما يملك من حيوانات كالأغنام والأبقار والإبل تسمى ضريبة (الكودة) (3) ، هذا فضلا عن ضريبة (المجزرة) والتي تؤخذ على كل راس ماشية يذبح وضريبة البايع وهي تؤخذ عند مرور السلع من منطقة إلى أخرى وضريبة الدمغة والتي تؤخذ على البضائع المباعة بالأسواق وضريبة (الكمرك) ، والتي تفرض على كل مايستورد أو يصدر من البضائع وضريبة المهنة يدفعها ذوي المهن الحرة .
وقد بلغ مجموع هذه الضرائب ما يقارب الثمانين ضريبة والتي اصبحت ثقل أبناء العشائر وعموم الشعب مما دفعتهم إلى التذمر والتمرد والذي انعكس سلبا على مستوى الإنتاج (4).

وان الدولة العثمانية كان همها الأساس هو فرض وجباية الضرائب دون التفكير الجدي في تحسين الأوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية في الولايات التابعة لها، وعلى الرغم من محاولات الإصلاح قامت بها الدولة العثمانية إلا إن العراق لم يستفيد منها إلا بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبخاصة في عهد مدحت باشا 1869-1872م الذي حاول أن يضفي طابعه الإصلاحي على مفاصل الحياة في العراق . في الوقت الذي كانت فيه مهنة الزراعة المهنة الرئيسية لسكان العراق إلا أنها لم تتأثر كثيرا بتلك الإصلاحات وبقيت الآلات القديمة هي المستخدمة في الإنتاج الزراعي مثل المحراث الخشبي واستعمال الحيوانات في العمليات الزراعية ، وبهذا الصدد ذكرت جريدة زوراء وباسلوب تهكمي ساخر " ما اعجب الحال وما أغرب هذه الاحوال إن قوة انباتية اراضي الحنطة العراقية التي هي فوق العادة كونها قد حيرت العقول وملأت بطون التواريخ فنحن الآن نروم خفض هذه الشهرة المرتفعة ونريد أن تبقى بلا اسم أو شهرة والى أن تستعمل الآلات الباقية من عهد نوح ومع هذا فلا يمر بخيالنا امر تزييد زراعتنا وتكثيرها ولا يسري بخاطرنا بحيث توسع دائرة تجارتنا وتوفيرها " (5)
وبعد عزل مدحت باشا تفاقم الأمر سوءً إذ جاء من بعده ولاة لم تكن لهم الهمة ذاتها ولا النزعة الإصلاحية كما هي عند مدحت باشا فأهملت الزراعة وتدهور الإنتاج الزراعي نتيجة لعدم اهتمام المسؤولين في الدولة العثمانية بها فضلا عن عامل مهم اثر سلبا على الإنتاج الزراعي ألا وهو التمرد العشائري الذي كاد أن يكون مستمرا في العراق (6).
أما خارج المدينة بعيدا عن المركز فان النظام العشائري له سطوته وصولته وهو السائد في العموم وشيخ العشرة أو القبيلة يستحوذ على سلطة الأمر والنهر وله الكلمة الأولى وهو اسميا يتبع لأقرب مدينة له ففي منطقة سوق الشيوخ في مدينة الناصرية كان المسؤولون الأتراك يقبعون في مقراتهم ملازمين لها لا يستطيعون مغادرتها من اجل القيام بواجباتهم المدنية والعسكرية . كما هو الحال في شمال العراق – كردستان – فلم يكن للسلطة العثمانية أي نفوذ سوى المناطق المحيطة بالمدن أو في الوديان القريبة من معسكراتهم ومحمياتهم القوية (7) .
وبهذا الصدد يمكن القول إن الدولة العثمانية كانت تحكم معظم أجزاء العراق – وخاصة الجنوب – عن طريق شيوخ العشائر كما هو حال المنتقك الذي تهيمن عليه عشائر السعدون والخزاعل على الديوانية وربيعة ووزبيد على الكوت والعزة على ديالى (8) .
والشيخ هو السلطة العليا في العشيرة أو القبيلة ويجمع بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية بالنسبة لأمور القبيلة وهو المعبر الوحيد عن إرادتها وبهذا فان أفراد القبيلة لا يتمتعون بأي حق سياسي وذلك بفعل الحرمان الاقتصادي والفقر المدقع الذي يعيشه الفلاح والناتج عن استغلال الشيخ – الإقطاعي – للفلاح . والشيخ عادة يملك الأراضي الواسعة خاصة بعد أن اسقط مفهوم الملكية المشاعة للأرض بين أفراد القبيلة وأصبحت ملكا للشيخ يمنح أي جزء منها لأي شخص سواء من عشيرته أو غيرها يستغلها وفق ما يراه ويخدم مصالحه وبحكم ما يملك الشيخ من إعداد كبيرة من الماشية والخيول والجمال فهو يستأثر بأكبر مساحة من الأراضي الخصبة له شخصيا (9) .