فصاحة قصيدة النثرـ حداثة اللغة تكتب عصرها ـ

Abstract

الملخص تعدّ اللغة المكوّن الأهم والأخطر في مسيرة التشكيل الشعري لبنيان قصيدة النثر، وتأتي هذه الأهمية من شدّة خصوصية هذه اللغة، وطبيعه تكوينها، وحساسية تشكيلها، ومخزونها التعبيري والثقافي، بوصفها المادة التكوينية الأساس في صناعة فضاء التعبير الشعري داخل عالم هذه القصيدة . وفي الوقت الذي تدخل فيه اللغة في صناعة النسيج النصّي الشعري تتحول ضرورةً إلى لغة ثانية، بمعنى أن ماء الشعر هو الذي يمنحها هذه الطاقة الفريدة على التحوّل إلى مجال تدليلي آخر، إذ إنها تتمخّض عن شبكة معطيات وقيم وأخلاقيات تعبيرية وسيميائية مبتكرة وحديثة وذات طابع حيوي وخاص . يتوقف مستوى هذه المعطيات وجدلها وحداثتها على مدى قوّة التشكيل النصّي وفاعليته وانعتاق فضائه وحرية خياله من جهة، ويتوقف من جهة أخرى على فضاء التحوّل الانزياحي الذي يحصل في حركة الدوال . لغة قصيدة النثر تدخل في التفاصيل كلّها دخولاً اختراقياً وتجاوزياً، وتفتح منافذ متجددة باستمرار في سبيل تحقيق إضاءات متوالدة للنص، لغة متوترة في صيغ طوارئ دائمة، تنطوي على قدر كبير من الثورة والاستفزاز والتحدّي والنقض، لا تستقرّ ولا تتواطأ مع الممكن والمألوف والمدرك . هي رفض لكل أشكال التحديد والمنطقة والتموضع الدلالي والاستقرار التشكيلي، ففي حدود الفعل الشعري المتجوّل داخل عمارة الكلام هي تشكيل لا منطقي ولا معقول، لأنها عندما تنطلق من حدود المدى الدلال المعجمي فإنها تدخل في صلب عمليات تشكيل عالمها وفضائها الخاص، لتفقد صلتها بتراثها المعنوي بسبب انفتاحها على محتملات دلالية مجازية غاية في الجدة والحداثة وبعيدة عن مدياتها المعنوية، فيصبح موروثها بعيدا جداً وسلبياً بإزاء شعرية وضعها وطاقتها الإنجازية الحبلى بالاحتمال ذات المرونة الاستثنائية العالية في الاستقبال والمزاوجة والاستشراف . إن لغة قصيدة النثر في صيرورتها ليست جزءاً محدداً من النص بوصف تقاسم الوظيفة اللسانية العامة وتجزئتها، على النحو الذي يمارسه نشاط وسائل التعبير الأخرى، إذ إنها العنصر التشكيلي الوحيد المتمتع باستقلاليته العضوية داخل النشاط العام للنص، بمعنى أن لها دوراً رئيساً في عملية البنينة والتكوين الشعري، فهي ـ حسب سارتر ـ كيان مستقل كالأشياء، ويجب أن تفهم مطلقاً على هذا النحو . إن استقلاليتها ليست استقلالية تفوّقية، استعلائية، جافة ذا ت عنق إيديولوجي، بل استقلالية كيانية متفتحة وخصبة، تعمل في مهمتها الأولى على كسر دائرة المعنى وتحطيم حدوده المقتضبة، القابلة للتحديد والتصنيف والمنطقة، والتلبّث غير المستكين في دائرة " زئبقية " لا تمنح معنى جاهزاً مسيطراً عليه . إن كل ما تفعله على هذا المستوى هو أنها تمنح ومضات وإضاءات وبرقيات شفافة تشكل في ذهن المتلقي خطوطاُ احتمالية لمقترح المعنى، لظلال المعنى، للتيار السرّي الذي يجري في قلب المعنى الدينامي، لمقتربات المعنى وضفافه وهوامشه وحالاته ورؤاه، لانعكاسات متشظية مباشرة وغير مباشرة لبانوراما المعنى، لإيقاع خفي متداخل يولّد موجات متنوعة للمعنى بطرق مختلفة وأساليب متنوعة . إذن لغة قصيدة النثر يجب أن تؤدي المعنى بطريقة حساسة ومختلفة و(مغايرة)، لا تعتمد الرسالة النسقية الواحدة ذات الموجة الواحدة، بل مجموعة رسائل متلاحقة بأطوال موجية متباينة ومتنوعة ذات حراك متدفّق، ويجري الإرسال والتسلّم حسب قوة وفاعلية وثقافة آليات المرسل والمستقبل . فبقدر ما تتمتّع به هذه الآليات المتقابلة من نشاط متنوع وغزير ودينامي وخصب، على درجة معقولة من التكافؤ والانسجام فإنها تنجح في إيراد احتمالات المعنى على وفق نواظم إيحائية ذات طاقة إشعاعية ثرية . لغة قصيدة النثر بعث شعري من الداخل وإيقاظ حاد لمكنونات المفردة وحيواتها الكامنة السابقة، وتحريرها من ربقة ذاتها وهيمنة أعرافها، إنها في هذا المدى التحرّري عملية فضح لأسرارها ومخفياتها واستنطاق حيّ ومتناغم لخارطتها الصمّاء، وتهديم بنائها التقليدي القائم وتخريب تصاميمه، على النحو الذي تتهيأ فيه لبناء آخر وتصميم آخر وفضاء عماري آخر لا يمت بصلة لمرجعياته التشكيلية السابقة .