حدود المعرفة الإنسانية ودور المنهج العقيدي

Abstract

لقد انشغل الإنسان على مدى كل مراحل وجوده الحضاري بالتساؤل عن كل ما يحيط به من ظواهر الكون ومكوناته على اختلاف أشكالها وأنواعها، وذلك بهدف التعرف عليها، وكشف خفاياها، والتوصل إلى نتائج علمية يقينية حولها، ثم العمل على الاستفادة من نتائج ذلك في الحفاظ على سلامته وبقائه، وكذلك من أجل العمل على تطوير ظروف حياته ووسائل عيشه، وصولاً إلى أقصى درجة ممكنة من السعادة والرفاهية. وقد احتفظ خلال جميع هذه المراحل، وعبر جميع المحاولات الاستكشافية والمعرفية، بحقيقة أنه الكائن العقلاني الوحيد في هذا الكون.صحيح أن الإنسان قد خضع في كثير من التفاعلات والمحاولات الاستكشافية التي أجراها إلى ضغوط انفعالية، وربما إلى منهجيات تحريفية عميقة، أثّرت سلبياً على مستويات وعيه ومعرفته، وبخاصة أثناء تعامله مع تلك الظواهر أو الأشياء أو المفاهيم... التي كان يتعذر عليه الاحتكاك المباشر معها وبحثها بحثا تجريبيا، أو التي كان يصعب عليه فهمها فهما عقليا . إلاّ أنه في الوقت نفسه ظل قادراً على استثمار طاقاته العقلية في فهم كثير من الظواهر أو الأشياء الأخرى، والتوصل إلى نتائج مهمّة مكّنته من قطع خطوات ارتقائية ملموسة على المستويين الشخصي والاجتماعي الحضاري. ولولا ذلك لما استطاع الإنسان المعاصر أن يجد نفسه محاطاً بكل هذه المعارف الهائلة والمتنوعة والعميقة. فالمعرفة الإنسانية تراكمية، والإنجاز الإنساني، بالتوازي النسبي معها، تراكمي.ولكن؛ على الرغم من عظمة وأهمية وكثافة ما تم التوصل إليه من اكتشافات علمية،واختراعات وابتكارات تكنولوجية، في مجال الظواهر الكونية على اختلافها وتنوعها، إلاّ أن المتتبع لما تم تحقيقه في مجال الظواهر الإنسانية يستطيع أن يؤكد وبثقة موضوعية عالية، حقيقة أنه لا يوجد بين كل المساهمات البحثية فيها أي مساهمة يمكن تفريدها، واعتبار أنها وضعت اليد على الحقائق العلمية المجردة التي ينبغي إقامة حياة الناس وعلاقاتهم وتنظيماتهم بناءً عليها. وأن ما يشهده الإنسان من سيول عارمة من المؤلفات والأبحاث في مجال الظواهر الإنسانية لا يعدو أن يكون في معظمه، وفي أحسن حالاته، مجرد تحليلات منطقية، واجتهادات وتفسيرات غير موثقّة بالبرهان المنهجي العلمي. وهذا ما يبرّر في تقديرنا ، ما ظل يحكم حياة الناس والمجتمعات، حتى الآن ، من اختلافات وخلافات وصراعات حول ما هي الحقائق التي ينبغي الاتفاق حولها، والعمل على ضوئها، كأساس يضمن تحقيق الغايات العليا للوجود الإنساني برمّته.ولعلنا نؤكد في هذا السياق، وبثقة عالية أيضا، أن هذا القصور الحاصل ليس بسبب التقصير في بذل الجهود البحثية الكافية، وإنّما بسبب عدم الاهتداء إلى المنهج الملائم والقادر على تمكين الباحثين من اكتشاف ضالتهم. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أن عملية البحث قد ظلت محاصرة بالمناهج التي تطبق في مجال الظواهر الطبيعية التي تختلف عن الظواهر الإنسانية اختلافاً نوعياً كبيراً. وهذا ما يعتبر في تقديرنا أهم وأخطر خلل أو خطأ منهجي لم يزل الباحثون غير متنبهين له، ولا يعملون على إدراكه وتجاوزه، ويستمرون مأسورين بوهج المنهج التجريبي المطبق على بحث الظواهر الكونية.إن هذه الدراسة تهدف إلى تقديم بيان محدد لنظرية المعرفة، بحيث تمكّن جميع الباحثين عن المعرفة في أي مجال من مجالات البحث، من العمل وفق فهم دقيق لغاياتهم، ولأساليب عملهم، ولأدواتهم، دونما شطط أو ضياع. كما إنها تهدف إلى توضيح الفروقات المنهجية بين الظواهر، وتحديد المنهج العلمي الذي يقدم حلاّ كاملا لكيفية بحث جميع الظواهر والموضوعات التي تتعلق بالكون وبالناس ،ولتحديد ذلك فانها تستند الى فرضية كبرى مفادها ان المنهج العلمي الشامل الذي يمكن من الوصول لكل ذلك هوالمنهج العقيدي.