التطوع للمصلحة العامة دراسة أصولية فقهية

Abstract

أولاً: النتائج:1 - يدور معنى مادة (ط - و - ع) لغةً: حول البذل والعطاء والسماح بالشَّيء، فالإنسان المطيع هو المنقاد الباذل، والفرس المطيع هو السلس، والشجر المطيع هو المنتج المثمر - ويدور معنى التَّطوع حول بذل الفعل في مصلحة الآخرين والتَّبرع به لهم، فهو تفعُّل من الطاعة. والمتطوع ما تبرع من ذات نفسه مما لا يلزمه قرضه، والمطوعة هم المتطوعون الباذلون المتبرعون بالخير، وغالب استخدامات لفظة " التَّطوع في الخير".2 - التَّعريف بالتَّطوع اصطلاحًا: إمَّا أن يكون باعتبار طبيعة العمل التَّطوعي وأهدافه، وهو ما أخذ به غالب علماء الشَّرع، وإمَّا أن يكون باعتبار مفهوم المنظمات التَّطوعيَّة في علاقتها بالكيانات المجتمعيَّة المختلفة، وهي الدَّولة والقطاع الخاص والعائلة، والأخذ بالاعتبار الأول - من وجهة رأي البحث - أقرب إلى جوهر التَّطوع.3 - ورد التَّطوع في القرآن الكريم بصيغة الفعل مرتين في سورة واحدة هي سورة البقرة في الآيتين الثامنة والخمسين بعد المائة، والرابعة والثمانين بعد المائة، وورد بصيغة الاسم بلفظة "المطوعين" مرة واحدة في سورة التَّوبة في الآية التاسعة والسبعين.- وفي الآية الأولى: اختصَّ التطوع فيها بالتطوع في العبادة؛ زيادة الطواف بعد الواجب - كما يدل ظاهر الآية الكريمة، وإن كان فريق - منهم الحسَن وغيره - قد قال: إنَّ المراد التطوع في سائر الأعمال.- وفي الآية الثانية: اختص التَّطوع بالبذل والعطاء والتَّصدق بزيادة عدد المساكين المطعومين، أو إطعام المسكين صاعًا، أو إطعام مساكين عن كل يوم، أو التَّطوع بالصيام مع الفدية، أو التَّطوع بزيادة المسكين في طعامه، وهي معانٍ كلها تدل على حث الشَّرع الإسلامي على التَّطوع بجميع صوره؛ لأنَّ الله تعالى قد عمَّم فلم يخصص معاني الخير دون بعض، فيمكن أن تكون المعاني كلها محتملة ومقصودة.- أما الآية الثالثة: فاختصت بهؤلاء الذين يعيبون على المطوعين الباذلين المتبرعين في مجالات الخير بالكثير أو القليل، فقد سخر هؤلاء من الذين جادوا بالكثير - كعبدالرحمن بن عوف - وسخروا أيضًا من الذين جادوا بجهدهم وطاقتهم بالقليل الذي عندهم - كالحبحاب، فقابلهم ربنا - سبحانه وتعالى - سخرية بسخرية أشد، جزاء على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمتطوعين، وانتصارًا لمن يتطوعون في التصدق وفي فعل جميع الخيرات، والجزاء من جنس العمل.4 - ورد معنى التَّطوع ضمنًا في كل ما فيه خير في التَّطوع للمصلحة العامَّة في آيات عديدة في القرآن الكريم؛ بما يشير على حث الشَّرع الإسلامي على التَّطوع بالتَّصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ذات البيت، والتَّعاون على البر والتَّقوى ورعاية المحتاجين من ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل والتَّصدق عليهم، وفي كل ما هو خير مهما كان قدره صغيرًا أو كبيرًا، وكذلك في كل ما يفعله المسلم - غير الفرض - من عمل صالح، وهو ما وعد ربنا سبحانه بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، كما طمأن ربنا سبحانه أصحاب الأعمال الصالحة في مجالات البذل والتَّطوع بالهداية وبشرهم بالجنة التي: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].5 - التَّطوع يتردَّد بين المندوب والواجب الكفائي أو العيني، وبذلك تكون أعمال التَّطوع: إمَّا مندوبة، وإمَّا واجبات كفائيَّة أو عينيَّة:فتكون أعمال التَّطوع مندوبة: إذا كان طلب الشَّرع من المكلفين للفعل طلبًا غير حتمي، ودلَّتِ الصيغة على ذلك أو دلَّت قرينة على هذا، وهو باب يتَّسع لغالب الصدقات والإسهاب مع جماهير المجتمع في الأعمال الخيريَّة؛ مثل: مساعدة الضعفاء، والإحسان إلى الأرامل، والعطف على اليتامى فعلاً وقولاً، والإسهام في محو أمية بعض الأميين، ومساعدة طلبة العلم وغير ذلك، من غير أن تكون في أمر خوطب المكلفون جميعًا بفعله وتعين على المجموع أن تقوم به فئة، وهو الواجب الكفائي.وقد تكون أعمال التَّطوع واجبات كفائيَّة: إذا كان طلب الشَّرع لمجموع المكلفين بفعله طلبًا حتميًّا، ودلَّت على هذه الحتمية الصيغة أو أية قرينة أخرى، وهذا يكون في كل مسائل الواجبات الكفائيَّة، مثل: تجهيز الموتى من حيث الغسل، والتكفين، والحمل، والصلاة عليهم، والدفن وغير ذلك، ومثل: التقاط اللقطاء ورعايتهم... وغير ذلك.فالواجب الكفائي يلزم المكلفين في مجموعهم بأداء هذه الواجبات الكفائيَّة، وذلك يحرص من توفَّرت فيه القدرة على الفعل وكان أهلاً بمباشرته وكفاية الباقين مؤنته، وهو ما يسقط الحرج والإثم على الجميع، ويثبت المباشرة للفعل.كما أنَّ الواجب الكفائي يرشد المكلفين - في الوقت ذاته - إلى ضوابط اختيار من يصلح للفعل بأن تتوفَّر فيه شروط الفعل أولاً، ويكون به ميل نحو ذلك القصد، وهو ما يجب أن يلاحظه الذين يختارونه لأداء هذا الفعل، ويتعهدونه بالتدريب والتأهيل حتى يصلح للقيام به، حتى تتحقق المصلحة العامة المرجوة.وتكون أعمال التَّطوع واجبات عينيَّة: إذا انحصر الواجب الكفائي في فرد معين أو فئة معينة أو فئات معينة، فهنا يتعيَّن الواجب إمَّا في هذا الشخص؛ كالمفتي الوحيد للبلد، أو الطبيب أو البيطار الوحيدين بها، وإمَّا في فئة معينة - كأساتذة الشَّرع في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتعريف الناس بأمور دينهم، وكجماعة من الناس حال حدوث حريق وليس ثمة جهة متخصصة بإطفاء الحريق، وانعدمت وسيلة الاتصال بهذه الجهة... وغير ذلك.6 - قدَّمت السنَّة النبويَّة صورًا في المجالات كافة التي تحيط بحياة الإنسان، فشرحت كيفية تطوع المسلم في حالاته المتعددة، وكيف يكون دائمًا في مصلحة أمته، وكانت حياة الصحابة - رضي الله عنهم جميعًا - ترجمة صادقة لهذا المنهج الشرعي، حتى رأينا نماذج عديدة للصحابة فيما يجب أن يكون عليه المسلم في سلوكه التَّطوعي.والنماذج التي قدم لها بحث أدلة من السنة وحياة الصحابة هي:أولاً: التطوع في المجال الطبي، والصحي، والإغاثة:وهذا المجال يشمل صورًا متعددة منها:1 - تجهيز الموتى؛ من حيث: الغسل، والتكفين، والحمل، والصلاة عليهم، والدفن... وغير ذلك.2 - تقديم الخدمات الإسعافيَّة وغيرها لمصابي الحوادث والكوارث، وجرحى الحروب، والأسرى، والغرقى، والهدمى... وغيرهم.ويلحق بهاتين المسألتين مسألتان معاصرتان، تمثلان مجالين متاحين للتَّطوع هذه الأيام، وهما:المسألة الأولى:التَّطوع في تعلم ثقافة الوقاية من الأمراض الخطرة المعاصرة التي انتشرت هذه الأيام، أو بدأت في الانتشار؛ مثل: الإيدز، وأنفلونزا الطيور... وغير ذلك، ثم التَّطوع - بعد التعلم - في تعليم هذه الثقافة للآخرين ونقلها إليهم والمشاركة في التوعية في هذا المجال.والمسألة الثانية:التَّطوع بالتَّبرع بالدم، والمشاركة في حملات التَّبرع بالدم من الآخرين، وفي هذا إنقاذ لمرضى محتاجين لهذا الدم، ومساعدة في علاجهم.ثانيًا: التَّطوع في المجال الاجتماعي وخدمة أفراد المجتمع:وقد ورد بالسنَّة حديث شامل مُبَشِّر لكل من نفس عن أخيه المسلم كربة من كرب الدنيا بأن الله - سبحانه - سينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، ويشمل هذا المجال صورًا متعددة منها:1 - خدمة المعاقين والمسنين والعجزة، وهو أمر مهِم، حيث يسرت الشريعة الإسلاميَّة على هؤلاء على حين عسَّر عليهم الناس بما نلاحظه من سوء معاملة لهؤلاء المعاقين والمسنين والعجزة.2 - إغاثة المستغيثين في النائبات، ودفع الضَّرر عن فقراء المسلمين: كسوة وطعامًا، وغير ذلك.3 - رعاية الأطفال اليتامى وكفالتهم في أسرهم.ويلحق بالمسائل السابقة مسائل أخرى، وهي وإن كانت مسائل قديمة تحدَّث الفقهاء القدامى عنها إلاَّ إنَّها مستأنفة الآن بواقع جديد مثل المسائل التالية:المسألة الأولى: أسرى المسلمين وتخليصهم من قيود الأسر والسجن.المسألة الثانية: التقاط الأطفال اللقطاء ورعايتهم وفقًا للمنهج الشرعي.7 - يقرر البحث إجمالاً - في النهاية - أنَّ أبواب التَّطوع ليس منصوصًا عليها نصًّا، وإنما هي أبواب يحدها وصف الخير، فكل باب هو باب خير ترغب الشَّريعة الإسلاميَّة فيه، وكل أمر يكون للمجتمع فيه مصلحة تطلبها حياة الناس وتقتضيها وتقبلها المقررات الشَّرعية هو أمر مطلوب من الجميع أن يسارعوا في الإسهام والمشاركة فيه، فالتَّطوع أمر واجب على المجتمع عامَّة فيما تستقيم به حياة الناس في هذا المجتمع.هذا جهد المقل ، فان أصبت فبتوفيق من الله تعالى ومنّه وكرمه ، وان جانبني الصواب ، فمن نفسي ، واستغفر الله تعالى ،وصلى الله تعالى على سيدنا ونبينا الاكرم ، وعلى آله الطيبين ، وصحابته الكرام ، وآخر دعوانا : ان الحمد لله ربّ العالمين .